Saturday, July 30, 2011

منهج الإمام ابن عاشور في تفسيره: سورة الأحزاب نموذجا


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، هاجر إلى الله، وجاهد في سبيله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد!
فإن علماء المسلمين من المفسرين المتمكنين قد اهتموا اهتماما كبيرا لتفسير كتاب الله تعالى وبيانه، واستخراج معانيه وأحكامه ومدلولاته، كي يحسن الناس فهمهم للآيات القرآنية، فيطبقونها في حياتهم اليومية، فينالون السعادة في الدنيا والآخرة. فلذلك، وضع المفسرون المناهج المتنوعة قبل أن يفسروا ذلك الكتاب لا ريب فيه؛ ليفسره تفسيرا صحيحا وجميلا، فيرغب الناس في اطلاع تفاسيرهم القيمة والمقنعة.
والحمد لله الذي وفقني إلى إعداد هذا البحث الذي اخترت له عنوان: "منهج الإمام ابن عاشور في تفسيره: سورة الأحزاب نموذجا". ومن أهم أهداف هذا البحث؛  بيان منهج الإمام ابن عاشور في تفسيره لسورة الأحزاب من حيث إظهاره لمعاني المفردات، والفن البلاغي، وشرح مناسبة بين الآيات، وأغراض السورة. 
وقد قسم هذا البحث إلى المقدمة وثلاثة  مباحث والخاتمة.
المبحث الأول: لمحة عن الإمام ابن عاشور وتفسيره التحرير والتنوير                     

المبحث الثاني: منهج الإمام ابن عاشور في إظهار معاني المفردات والفن البلاغي في سورة الأحزاب  

المبحث الثالث: منهج الإمام ابن عاشور في بيان المناسبة بين الآيات وأغراض السورة في سورة الأحزاب
وختاماً أرجو من الله العلي القدير أن يجعل هذا البحث عملاً صالحاً خالصاً لوجهه الكريم، مقبولاً عنده عز وجل، وصلى الله على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول: لمحة عن الإمام ابن عاشور وتفسيره التحرير والتنوير                        
المطلب الأول: لمحة عن الإمام ابن عاشور
اسمه ومولده ووفاته
هو الإمام محمد الطاهر بن عاشور، ولد في تونس سنة (1296هـ = 1879م)، وتوفي في تونس يوم (13 رجب 1393 هـ = 12 أغسطس 1973م) بعد حياة حافلة بالعلم والإصلاح والتجديد على مستوى تونس والعالم الإسلامي، وقد عمر طويلا حيث عاش أكثر من خمس وتسعين سنة[1].
نبذة عن حياته
أتم ابن عاشور القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة سنة (1310هـ = 1892م) وهو في الـرابعة عشر من عمره، فأظهر نبوغًا منقطع النظير. وتخرج من الزيتونة عام (1317هـ = 1896م)، والتحق بسلك التدريس في هذا الجامع العريق، ولم تمض إلاّ سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة (1324هـ = 1903م). وكان قد اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة (1321هـ = 1900م)، وكان لهذه التجربة المبكرة في التدريس بين الزيتونة ـ ذات المنهج التقليدي ـ والصادقية ـ ذات التعليم العصري المتطور ـ أثرها في حياته، إذ فتحت وعيه على ضرورة ردم الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ويقبلان أن يكونا خطوط انقسام ثقافي وفكري في المجتمع التونسي، وهما: تيار الأصالة الممثل في الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل في الصادقية، ودوّن آراءه هذه في كتابه النفيس (أليس الصبح بقريب؟) من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة التي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي. وقد توطدت العلاقة بينه وبين رشيد رضا، وكتب ابن عاشور في مجلة المنار. وعين ابن عاشور نائبا أول لدى النظارة العلمية بجامع الزيتونة سنة (1325 هـ = 1907م)؛ فبدأ في تطبيق رؤيته الإصلاحية العلمية والتربوية، وأدخل بعض الإصلاحات على الناحية التعليمية، وحرر لائحة في إصلاح التعليم وعرضها على الحكومة فنفذت بعض ما فيها، وسعى إلى إحياء بعض العلوم العربية؛ فأكثر من دروس الصرف في مراحل التعليم وكذلك دروس أدب اللغة، ودرس بنفسه شرح ديوان الحماسة لأبي تمام. واختير ابن عاشور في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة في (صفر 1328 هـ = 1910م)، وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية (1342 هـ = 1924م)، ثم اختير شيخا لجامع الزيتونة في (1351 هـ = 1932م)، كما كان شيخ الإسلام المالكي؛ فكان أول شيوخ الزيتونة الذين جمعوا بين هذين المنصبين، ولكنه لم يلبث أن استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح الزيتونة، وبسبب اصطدامه ببعض الشيوخ عندما عزم على إصلاح التعليم في الزيتونة. وأعيد تعينه شيخا لجامع الزيتونة سنة (1364 هـ = 1945م)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية. ولدى استقلال تونس أسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية سنة (1374 هـ = 1956م). ومن المواقف المشهورة للطاهر بن عاشور رفضه القاطع استصدار فتوى تبيح الفطر في رمضان، وكان ذلك عام (1381 هـ = 1961م) عندما دعا "الحبيبُ بورقيبة" الرئيسُ التونسي السابق العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج، وطلب من الشيخ أن يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، لكن الشيخ صرح في الإذاعة بما يريده الله تعالى، بعد أن قرأ آية الصيام، وقال بعدها: "صدق الله وكذب بورقيبة"، فخمد هذا التطاول المقيت وهذه الدعوة الباطلة بفضل مقولة ابن عاشور[2].
مؤلفاته
وقال عنه خير الخير الدين الزركلي: "محمد الطاهر بن عاشور: رئيس المفتين المالكيين بتونس. مولده ووفاته ودراسته بها. عين سنة 1932 شيخا للإسلام مالكيا، وهو من أعضاء المجمعين العربيين في دمشق والقاهرة. له مؤلفات مطبوعة. من أشهرها: مقاصد الشريعة الإسلامية، وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، والتحرير والتنوير في تفسير القرآن، والوقف وآثاره في الإسلام، وأصول الإنشاء والخطابة، وموجز البلاغة، وتحقيق ديوان بشار بن برد في أربعة أجزاء. وكتب كثيرا في المجلات..."[3].

المطلب الثاني: اللمحة عن تفسيره التحرير والتنوير
التأليف
        ابتدأ الإمام ابن عاشور كتابة تفسيره في سنة 1341هـ وهو في الخامسة والأربعين من عمره، واستمر يفسر القرآن حوالي أربعين سنة، وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة، الثاني عشر من شهر رجب عام 1380هـ، فكانت مدة تأليفه تسعا وثلاثين سنة وستة أشهر. وكان إتمامه للتفسير قبل موته بثلاث عشرة سنة[4].
التسمية
        وأطلق على تفسيره اسم: "تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، في تفسير الكتاب المجيد". واختصره باسم "التحرير والتنوير من التفسير"[5].
سبب التأليف
        ومما قاله ابن عاشور في مقدمة تفسيره: "أما بعد: فقد كان أكبر أمنيتي منذ أمد بعيد، تفسير الكتاب المجيد، الجامع لمصالح الدنيا والدين، وموثق شديد العرى من الحق المتين، والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها، والآخذ قوس البلاغة من محل نياطها...وجعلت حقا علي أن أبدي في تفسير القرآن نكتا لم أر من سبقني إليها"[6].
الجديد فيه
        ومما قاله ابن عاشور عن الجديد في تفسيره:
...وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين، تارة لها وآونة عليها...فإن الاقتصار على الحديث المعاد تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد...ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين: رجل معتكف فيما شاده الأقدمون، وآخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت به القرون...وفي كلتا الحالتين ضر كثير...وهناك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي: أن نعمد إلى ما شاده الأقدمون فنهذبه ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، عالما بأن غمض فضلهم كفران للنعمة...وقد ميزتُ ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه، وما أجلبه من المسائل العلمية، مما لا يذكره المفسرون[7].
فالمفهوم من هذا الكلام أن تفسيره عبارة عما اقتصره من أقوال المفسرين المتقدمين بعد أن يهذبه ويزيده مع ما ميزه الإمام ابن عاشور بالمسائل العلمية مما لا يذكره المفسرون قبله.
منهجه في التفسير

وقد ذكر الإمام ابن عاشور منهجه في تفسير القرآن كما يلي:

إن معاني القرآن ومقاصده ذات أفانين كثيرة، بعيدة المدى، مترامية الأطراف، موزعة على آياته، فالأحكام مبنية في آيات الأحكام، والأدب في آياتها، والقصص في مواقعها، وربما اشتملت الآية الواحدة على فنين من ذلك أو أكثر. وقد نحا كثير من المفسرين بعض تلك الأفنان، ولكن فنا من فنون القرآن لا تخلو عن دقائقه ونكته آية من آيات القرآن، وهو فن دقائق البلاغة، وهو الذي لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصوا الأفانين الأخرى...من أجل ذلك التزمت أن لا أغفل التنبيه على ما يلوح لي من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن كلما ألهمته، بحسب مبلغ الفهم وطاقة التدبر. وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز، ونكت البلاغة، وأساليب الاستعمال، واهتممت أيضا ببيان اتصال الآي بعضها ببعض، وهو منزع جليل، قد عنى به فخر الدين الرازي، وألف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى "نظم الدرر في تناسب الآي والسور"، إلا أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع، فلم تزل أنظار المتأملين لفصل القول تتطلع...ولم أغادر سورة إلا بينتُ ما أحيط به من أغراضها، لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصورا على بيان مفرداته ومعاني جمله، كأنها فِقَرٌ متفرقة، تصرفه عن روعة انسجامه، تحجب عنه روائع جمله. واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق، مما خلت عن ضبط كثير قواميس اللغة[8].

وبعد إمعان النظر في كلامه هذا، يمكن لنا أن نستخرج منهج ابن عاشور في التفسير كما يلي:

1.  اهتمامه بفن دقائق البلاغة

2. اهتمامه ببيان وجوه الإعجاز

3. اهتمامه ببيان اتصال الآي بعضها ببعض

4. اهتمامه ببيان أغراض السورة

5. اهتمامه ببيان معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق.

وقال الإمام ابن عاشور في آخر تفسيره:

يقول محمد الطاهر ابن عاشور: قد وفيتُ بما نويت، وحقق الله ما ارتجيتُ فجئتُ بما سمح به الجُهد من بيان معاني القرآن ودقائق نظامه وخصائص بلاغته، مما اقتَبس الذهنُ من أقوال الأيمة، واقتدح من زَنْد لإِنارة الفكر وإلهاب الهمّة، وقد جئتُ بما أرجو أن أكون وُفِّقْتُ فيه للإِبانة عن حقائقَ مغفوللٍ عنها، ودقائق ربما جَلَتْ وجوهاً ولم تَجْلُ كُنْهاً، فإن هذا مَنَال لا يبلغ العقلُ البشري إلى تمامه، ومن رام ذلك فقد رام والجوزاءُ دون مَرامِهْ. وإن كلام رب الناس، حقيق بأن يُخدم سَعياً على الرأس، وما أدَّى هذا الحقَّ إلاّ قلَم المفسر يسعَى على القرطاس، وإن قلمي طالما استَنَّ بشوط فسيح، وكم زُجر عند الكَلاَللِ والإِعْيَاءِ زَجْر المَنيح، وإذ قد أتى على التمام فقد حَقَّ له أن يستريح[9].

فنظراً إلى حدود الوقت والصفحات، سيركز هذا البحث على إبراز اهتمام الإمام ابن عاشور ببيان معاني المفردات، وفن دقائق البلاغة، والمناسبة بين الآيات، وأغراض السورة فحسب.

المبحث الثاني: منهج الإمام ابن عاشور في إظهار معاني المفردات والفن البلاغي في سورة الأحزاب

المطلب الأول: منهج الإمام ابن عاشور في إظهار معاني المفردات في سورة الأحزاب

وقد اهتم الإمام ابن عاشور في بيان معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق: وهناك أمثلة كثيرة في هذه السورة التي تدل على هذا الاهتمام ومنها:
1. في بيان معنى "لا تطع" في آية رقم 1 حيث قال:
فإن معنى {لا تطع} مرادف معنى: لاَ تَتَّققِ الكافرين والمنافقين، فإن الطاعة تقوى؛ فصار مجموع الجملتين مفيداً معنى: يأيها النبي لا تتق إلا الله، فعدل عن صيغة القصر وهي أشهر في الكلام البليغ وأوجز إلى ذكر جملتي أمر ونهي لقصد النص على أنه قصر إضافي أريد به أن لا يطيع الكافرين والمنافقين لأنه لو اقتصر على أن يُقال: لا تتق إلا الله لما أصاخت إليه الأسماع إصاخة خاصة لأن تقوى النبي صلى الله عليه وسلم ربه أمر معلوم، فسلك مسلك الإطناب لهذا، كقول السموْأل:
تَسِيل على حدّ الظُبات نفوسنا... وليستْ على غير الظُبات تسيل
فجاء بجملتي إثبات السيلان يِقَيْدٍ ونفيه في غير ذلك القيد للنص على أنهم لا يكرهون سيلان دمائهم على السيوف ولكنهم لا تسيل دماؤهم على غير السيوف. فإن أصل صيغة القصر أنها مختصرة من جملتي إثبات ونفي، ولكون هذه الجملة كتكملة للتي قبلها عطفت عليها لاتحاد الغرض منهما. وقد تعين بهذا أن الأمر في قوله {اتّققِ الله} والنهي في قوله: {ولا تُطِعِ الكافرين والمنافقين} مستعملان في طلب الاستمرار على ما هو ملازم له من تقوى الله، فأشعر ذلك أن تشريعاً عظيماً سيلقى إليه لا يخلو من حرج عليه فيه وعلى بعض أمته، وأنه سيلقى مطاعن الكافرين والمنافقين[10].
وبعد أن يبين الإمام ابن عاشور عن معنى "لا تطع" في الآية، عرّف الطاعة كما يلي:
والطاعة: العمل على ما يأمر به الغير أو يشير به لأجل إجابة مرغوبة. وماهيتها متفاوتة مقول عليها بالتشكيك، ووقوع اسمها في سياق النهي يقتضي النهي عن كل ما يتحقق فيه أدنى ماهيتها...والمعنى: أن الله حقيق بالطاعة له دون الكافرين والمنافقين لأنه عليم حكيم فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح[11].
2. في بيان معنى التوكل والوكيل عند تفسير آية رقم 3، قال:
والتوكل: إسناد المرء مُهمه وشأنه إلى من يتولى عمله وتقدم عند قوله تعالى: {فإذا عَزَمْتَ فَتَوكَّلْ على الله} في سورة آل عمران (159). والوكيل: الذي يسند إليه غيره أمره، وتقدم عند قوله تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونِعم الوكيل} في سورة آل عمران (173). وقوله: {وَكيلاً} تمييز نسبة، أي: كفى الله وكيلاً، أي وكالته، وتقدم نظيره في قوله: {وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً} في سورة النساء (81)[12].
3. في بيان معنى "الأدعياء" عند تفسير آية رقم 4 قال:
والأدعياء: جمع دَعِيّ بوزن فَعيل بمعنى مفعول مشتقاً من مادة الادّعاء، والادّعاء: زعم الزاعم الشيء حقاً له من مال أو نسب أو نحو ذلك بصدق أو كذب، وغلب وصف الدعيّ على المدّعي أنه ابن لمن يُتحقق أنه ليس أباً له؛ فمن ادعى أنه ابن لمن يحتمل أنه أب له فذلك هو اللحيق أو المستلْحق، فالدعي لم يجعله الله ابناً لمن ادّعاه للعِلم بأنه ليس أباً له، وأما المستلحَق فقد جعله الله ابناً لمن استلحقه بحكم استلحاقه مع إمكان أبوته له. وجُمع على أفْعِلاء لأنه معتل اللام فلا يجمع على فَعْلَى، والأصح أن أفْعِلاَء يطّرد في جمْع فعيل المعتل اللام سواء كان بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول[13].
4. في بيان معنى "الميثاق" عند تفسير آية رقم 7 قال:
والميثاق: اسم العهد وتحقيق الوعد، وهو مشتق من وثق، إذا أيقن وتحقق، فهو منقول من اسم آلة مجازاً غلب على المصدر، وتقدم في قوله تعالى: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } في سورة البقرة ( 27 ). وإضافة ميثاق إلى ضمير النبيئين من إضافة المصدر إلى فاعله على معنى اختصاص الميثاق بهم فيما أُلزموا به وما وعدهم الله على الوفاء به. ويضاف أيضاً إلى ضمير الجلالة في قوله { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به } [ المائدة: 7 ][14].
5. في بيان معنى "الأقطار" عند تفسير آية رقم 14 قال:
والأقطار: جمع قُطر بضم القاف وسكون الطاء وهو الناحية من المكان. وإضافة (أقطار) وهو جمع تفيد العموم، أي: من جميع جوانب المدينة وذلك أشد هجوم العدوّ على المدينة كقوله تعالى: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفلَ منكم} [الأحزاب: 10][15].
6. في بيان معنى "الشح" عند تفسير آية رقم 19 قال:
والشحّ: البخل بما في الوسع مما ينفع الغير. وأصله: عدم بذل المال، ويستعمل مجازاً في منع المقدور من النصر أو الإعانة، وهو يتعدّى إلى الشيء المبخول به بالباء وب {على} قال تعالى: {أشّحة على الخير} ويتعدى إلى الشخص الممنوع ب {على} أيضاً لما في الشحّ من معنى الاعتداء فتعديته في قوله تعالى {أشحة عليكم} من التعدية إلى الممنوع. والمعنى: يمنعونكم ما في وسعهم من المَال أو المعونة، أي: إذا حضروا البأس منعوا فائدتهم عن المسلمين ما استطاعوا ومن ذلك شحّهم بأنفسهم وكل ما يُشحّ به[16].
7. في بيان معنى "التسليم" عند تفسير آية رقم 22 قال:
والتسليم: الانقياد والطاعة لأن ذلك تسليمُ النفس للمنقاد إليه، وتقدم في قوله تعالى {ويسلّموا تسليماً} في سورة النساء (65). ومن التسليم هنا تسليم أنفسهم لملاقاة عدوّ شديد دون أن يتطلبوا الإلقاء بأيديهم إلى العدوّ وأن يصالحوه بأموالهم[17].
8. في بيان معنى "الجاهلية" عند تفسير آية رقم 33 قال:
{الجاهلية}: المدة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام، وتأنيثها لتأويلها بالمُدة. والجاهلية نسبة إلى الجاهل لأن الناس الذين عاشوا فيها كانوا جاهلين بالله وبالشرائع، وقد تقدم عند قوله تعالى: {يظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية} في سورة آل عمران (154) [18].
9. في بيان معنى "التحية" عند تفسير آية رقم 44 قال:
والتحية: الكلام الذي يخاطب به عندَ ابتداء الملاقاة إعراباً عن السرور باللقاء من دعاء ونحوه. وهذا الاسم في الأصل مصدر حيّاه، إذا قال له: أحْياك الله، أي أطال حياتك. فسمى به الكلام المعرب عن ابتغاء الخير للملاقَى أو الثناء عليه لأنه غلب أن يقولوا: أحياك الله عند ابتداء الملاقاة فأطلق اسمها على كل دعاء وثناء يقال عند الملاقاة وتحية الإِسلام: سَلامٌ عليك أو السلامُ عليكم، دعاء بالسلامة والأمن، أي من المكروه لأن السلامة أحسن ما يُبتغى في الحياة. فإذا أحياه الله ولم يُسلِّمه كانت الحياة أَلَما وشراً، ولذلك كانت تحيةُ المؤمنين يوم القيامة السلامَ بشارة بالسلامة مما يشاهده الناس من الأهوال المنتظرة. وكذلك تحية أهل الجنة فيما بينهم تلذّذاً باسم ما هم فيه من السلامة من أهوال أهل النار، وتقدم في قوله: {وتحيتهم فيها سلام} في سورة يونس (10). وإضافة التحية إلى ضمير المؤمنين من إضافة اسم المصدر إلى مفعوله، أي تحية يُحَيَّون بها[19].
10. في بيان معنى "الشاهد" و"المبشر" و"النذير" عند تفسير آية رقم 45 قال:
والشاهد: المخبر عن حجة المدعي المحقّ ودفع دعوى المبطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم شاهد بصحة ما هو صحيح من الشرائع وبقاءِ ما هو صالح للبقاء منها ويشهد ببطلان ما ألصق بها وبنسخ ما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها بما أخبر عنهم في القرآن والسنة، قال تعالى: { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [ المائدة: 48 ]. وفي حديث الحشر: « يُسأل كل رسول هل بلّغ؟ فيقول: نعم. فيقول الله: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته ». الحديث. ومحمد صلى الله عليه وسلم شاهد أيضاً على أمته بمراقبة جريهم على الشريعة في حياته وشاهد عليهم في عَرَصات القيامة، قال تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41] فهو شاهد على المستجيبين لدعوته وعلى المعرضين عنها، وعلى من استجاب للدعوة ثم بَدّل. وفي حديث الحَوض: «ليَرِدَنَّ عليَّ ناسٌ من أصحابي الحوضَ حتى إذا رأيتُهم وعرفتُهم اختُلجوا دوني فأقول: يا رب أُصَيْحَابي أُصَيْحَابي. فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول تَبًّا وسُحْقاً لمَن أحدث بعدي» يعني: أحدثوا الكفر وهم أهل الردة كما في بعض روايات الحديث: «إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم». فلا جرم كان وصف الشاهد أشمل هذه الأوصاف للرسول صلى الله عليه وسلم بوصف كونه رسولاً لهذه الأمة، وبوصف كونه خاتماً للشرائع ومتمّماً لِمراد الله من بعثة الرسل.
والمبشر: المخبر بالبُشرى والبِشارة. وهي الحادث المسرّ لمن يخبر به والوعد بالعطية، والنبي صلى الله عليه وسلم مبشر لأَهل الإِيمان والمطيعين بمراتب فوزهم. وقد تضمن هذا الوصف ما اشتملت عليه الشريعة من الدعاء إلى الخير من الأوامر وهو قسم الامتثال من قسمي التقوى، فإن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمأمورات متضمنة المصالح فهي مقتضية بشارة فاعليها بحسن الحال في العاجل والآجل. وقدمت البِشارة على النِذارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلب عليه التبشير لأنه رحمة للعالمين، ولكثرة عدد المؤمنين في أمته.
والنذير: مشتق من الإِنذار وهو الإِخبار بحلول حادث مسيء أو قُرْب حلوله، والنبي عليه الصلاة والسلام منذر للذين يخالفون عن دينه من كافرين به ومن أهل العصيان بمتفاوت مؤاخذتهم على عملهم[20].
        ومن هذه الأمثلة، نجد أن الإمام ابن عاشور في بيانه لمعاني المفردات، بدأ باختيار كلمات مهمة، ثم جاء بمشتقاتها، ثم بين معانياها اللغوية، وبعد ذلك شرح معناه حسب سياق الآية بالاستدلال من الآيات الأخرى والأحاديث النبوية، والأبيات الشعرية. وبين كذلك الفوائد البلاغية التي وجدها أثناء بيانه عن معاني المفردات.




المطلب الثاني: منهج الإمام ابن عاشور في إظهار الفن البلاغي
وقد اهتم الإمام ابن عاشور في بيان دقائق الفن البلاغي، وهناك أمثلة كثيرة في هذه السورة التي تدل على هذا الاهتمام ومنها:
1. اهتمامه في ذكر فوائد، مثلا في تفسيره لآية رقم 4 ذكر فائدة من ذكر الجوف:
والجوف: باطن الإنسان صدره وبطنه وهو مقر الأعضاء الرئيسية عدا الدماغ. وفائدة ذكر هذا الظرف زيادة تصوير المدلول عليه بالقلب وتجليه للسامع فإذا سمع ذلك كان أسرع إلى الاقتناع بإنكار احتواء الجوف على قلبين[21].
2. اهتمامه ببيان ما في الآية من الاستعارة، مثلا:
عند تفسير آية رقم 6 قال:
فالكتاب: استعارة مكنية وحرف الظرفية ترسيخ للاستعارة. والمسطور: المكتوب في سطور، وهو ترشيح أيضاً للاستعارة وفيه تخييل للمكنية[22].
وعند تفسير آية رقم 11 قال:
والزلزال: اضطراب الأرض، وهو مضاعف زَلّ تضعيفاً يفيد المبالغة، وهو هنا استعارة لاختلال الحال اختلالاً شديداً بحيث تُخَيَّل مضطربة اضطراباً شديداً كاضطراب الأرض وهو أشدّ اضطراباً للحاقه أعظم جسم في هذا العالم. ويقال: زُلْزِلَ فلان، مبنياً للمجهول تبعاً لقولهم: زُلزلت الأرض، إذ لا يعرف فاعل هذا الفعل عُرفاً. وهذا هو غالب استعماله قال تعالى: {وزلزلوا حتى يقول الرسول الآية} [ البقرة: 214 ]. والمراد بزلزلة المؤمنين شدة الانزعاج والذعر لأن أحزاب العدو تفوقُهم عَدداً وعُدة[23].
وعند تفسير آية رقم 37 قال:
{أمسك عليك} معناه: لازِم عشرتها، فالإِمساك مستعار لبقاء الصحبة تشبيهاً للصاحب بالشيء الممسَك باليد[24].
وعند تفسير آية رقم 72 قال:
وقرينة الاستعارة حالية وهي عدم صحة تعلق العرض والإِباء بالسماوات والأرض والجبال لانتفاء إدراكها فأنّى لها أن نختار وترفض، وكذلك الإنسان باعتبار كون المراد منه جنسه وماهيته لأن الماهية لا تفاوض ولا تختار كما يقال: الطبيعة عمياء، أي لا اختيار لها، أي للجبلة وإنما تصدر عنها آثارها قسراً. ولذلك فأفعال { عَرضنا، أبَيْن، يحملنها، وأشفقن منها، وحملها } أجزاء للمركب التمثيلي. وهذه الأجزاء صالحة لأن يكون كل منها استعارة مفردة بأن يشبه إبداع الأمانة في الإنسان وصرفها عن غيره بالعرض، ويشبه عدم مُصَحح مَواهي السماوات والأرض والجبال لإِيداع الأمانة فيها بالإِباء، ويشبه الإِيداع بالتحميل والحمل، ويشبه عدم التلاؤم بين مواهي السماوات والأرض والجبال بالعجز عن قبول تلك الكائنات إياها وهو المعبر عنه بالإِشفاق، ويشبه التلاؤم ومُصحِّح القبول لإِيداع وصف الأمانة في الإِنسان بالحمل للثقْل[25].
3. اهتمامه ببيان ما في الآية من الالتفات عند تفسير آية رقم 9 قال:
وضمير {يسأل} عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلم إلى الغيبة[26].
4. اهتمامه ببيان ما في الآية من الكناية، مثلا:
عند تفسير آية رقم 9 قال:
والسؤال: كناية عن المؤاخذة لأنها من ثواب جواب السؤال أعني إسداء الثواب للصادقين وعذاب الكافرين[27].
وعند تفسير آية رقم 10 قال:
وجملة {وتظنون بالله الظنونا} يجوز أن تكون عطفاً على جملة {زاغت الأبصار} ويجوز أن يكون الواو للحال وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد تلك الظنون بتجدد أسبابها كناية عن طول مدة هذا البلاء[28].
وعند تفسير آية رقم 15 قال:
وتولية الأدبار: كناية عن الفرار فإن الذي استأذنوا لأجله في غزوة الخندق أرادوا منه الفرار ألا ترى قوله {إن يريدون إلا فراراً} [الأحزاب: 13]، والفرار مما عاهدوا الله على تركه[29].
وعند تفسير آية رقم 20 قال:
والوُدّ هنا مستعمل كناية عن السعي لحصول الشيء المودود لأن الشيء المحبوب لا يمنع من تحصيله إلا مانع قاهر فهو لازم للودّ[30].
وعند تفسير آية رقم 34 قال:
وفعل {اذْكُرن} يجوز أن يكون من الذُّكر بضم الذال وهو التذكّر، وهذه كلمة جامعة تشمل المعنى الصريح منه، وهو أن لا ينسَيْن ما جاء في القرآن ولا يغفلن عن العمل به، ويشمل المعنى الكنائي وهو أن يراد مراعاة العمل بما يتلى في بيوتهن مما ينزل فيها وما يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وما يبيّن فيها من الدين، ويشمل معنى كنائياً ثانياً وهو تذكر تلك النعمة العظيمة أَن كانت بيوتهن موقع تلاوة القرآن[31].
5. اهتمامه ببيان ما في الآية من التمثيل، مثلا:
عند تفسير آية رقم 10 قال:
وبلوغ القلوب الحناجر تمثيل لشدة اضطراب القلوب من الفزع والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مقارّها وترتفع طالبة الخروج من الصدور فإذا بلغت الحناجر لم تستطع تجاوزها من الضيق؛ فشبهت هيئة قلب الهلوع المرعُود بهيئة قلببٍ تجاوز موضعه وذهب متصاعداً طالباً الخروج، فالمشبه القلبُ نفسه باعتبار اختلاف الهيئتين. وليس الكلام على الحقيقة، فإن القلوب لا تتجاوز مكانها، وقريبٌ منه قولهم: تنفّس الصُعَداء، وبلغت الروح التراقيَ[32].
وعند تفسير آية رقم 72 قال:
وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات. فتخصيص { السماوات والأرض } بالذكر من بين الموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات[33].
6. اهتمامه ببيان ما في الآية من المجاز، مثلا:
عند تفسير آية رقم 19 قال:
والمجيء: مجاز مشهور من حدوث الشيء وحصوله. كما قال تعالى {فإذا جاء وعدُ الآخرة} [الإسراء: 7]...وذهاب الخوف مجاز مشهور في الانقضاء، أي: زوال أسبابه بأن يُترك القتال أو يتبين أن لا يقع قتال. وذلك عند انصراف الأحزاب عن محاصرة المدينة كما سيدل عليه قوله {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا}...والإحباط: جعل شيء حَابطاً، فالهمزة فيه للجَعْل مثل الإذهاب. والحَبْط حقيقته: أنه فساد ما يراد به الصلاح والنفع. ويطلق مجازاً على إفساد ما كان نافعاً أو على كون الشيء فاسداً ويظن أنه ينفع يقال: حَبِط حَقُّ فلان، إذا بطل. والإطلاق المجازي ورد كثيراً في القرآن[34].
وعند تفسير آية رقم 48 قال:
وقوله: {ودع أذاهم} يجوز أن يكون فعل {دع} مراداً به أن لا يعاقبهم فيكون {دع} مستعملاً في حقيقته وتكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي دع أذاك إياهم. ويجوز أن يكون {دع} مستعملاً مجازاً في عدم الاكتراث وعدممِ الاغتمام، فما يقولونه مما يؤذي ويكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى فاعله، أي لا تكترث بما يصدر منهم من أذىً إليك فإنك أجلّ من الاهتمام بذلك، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه[35].
7. اهتمامه ببيان ما في الآية من التشبيه، مثلا:
عند تفسير آية رقم 46 قال:
وقوله {وسراجاً منيراً} تشبيه بليغ بطريق الحالية وهو طريق جميل، أي أرسلناك كالسراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبس فيها والتي لا تترك للباطل شبهة إلا فضحتها وأوقفت الناس على دخائلها، كما يضيء السراج الوقّاد ظلمة المكان. وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البيان وإيضاح الاستدلال وانقشاع ما كان قبله في الأديان من مسالك للتبديل والتحريف فشمل ما في الشريعة من أصول الاستنباط والتفقه في الدين والعلم، فإن العلم يشبَّه بالنور فناسبه السراج المنير. وهذا وصف شامل لجميع الأوصاف التي وصف بها آنفاً فهو كالفذلكة وكالتذييل[36].
8. اهتمامه ببيان ما في الآية من المقابلة، مثلا:
عند تفسير آية رقم 48 قال:
جاء في مقابلة قوله: {وبشر المؤمنين} [الأحزاب: 47] بقوله: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} تحذيراً له من موافقتهم فيما يسألون منه وتأييداً لفعله معهم حين استأذنه المنافقون في الرجوع عن الأحزاب فلم يأذن لهم، فنُهي عن الإِصغاء إلى ما يرغبونه فيترك ما أحلّ له من التزوّج، أو فيعطي الكافرين من الأحزاب ثَمر النخل صلحاً أو نحو ذلك، والنهي مستعمل في معنى الدوام على الانتهاء. وعلم من مقابلة أمر التبشير للمؤمنين بالنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين أن الكافرين والمنافقين هم متعلَّق الإِنذار من قوله: {ونذيراً} [الأحزاب: 45] لأن وصف «بشيراً» قد أخذ متعلّقه فقد صار هذا ناظراً إلى قوله: {ونذيراً} [الأحزاب: 45][37].

ومن هذه الأمثلة، نجد أن الإمام ابن عاشور في بيانه لدقائق الفن البلاغي، ذكر أنواع البلاغة من التمثيل والاستعارة والكناية والتشبيه والمقابلة والالتفات ونحوها.


المبحث الثالث: منهج الإمام ابن عاشور في بيان المناسبة بين الآيات وأغراض السورة
المطلب الأول: منهج الإمام ابن عاشور في بيان المناسبة بين الآيات
وقد اهتم الإمام ابن عاشور في بيان المناسبة بين الآيات، وهناك أمثلة كثيرة في هذه السورة التي تدل على هذا الاهتمام ومنها:
1. بيان المناسبة بين الآية والآيتين قبله، مثلا في تفسير آية رقم 4 قال:
{وَمَا جَعَلَ أدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُم} هذا هو المقصود الذي وُطِّىء بالآيتين قبله، ولذلك أسهب الكلام بعده بتفاصيل التشريع فيه. وعطفت هذه الجملة على اللتين قبلها لاشتراك ثلاثتها في أنها نفت مزاعم لا حقائق لها[38].
2. بيان المناسبة بين الجمل في الآية الواحدة، مثلا في تفسير آية رقم 4 قال:
{ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيل} استئناف اعتراضي بين التمهيد والمقصود من التشريع وهو فذلكة كما تقدم من الجمل الثلاث التي نفت جعلهم ما ليس بواقع واقعاً، ولذلك فصلت الجملة لأنها تتنزل منزلة البيان بالتحصيل لما قبلها[39].
3. بيان المناسبة بين الآية ومعاني الآيات قبلها، مثلا في تفسير آية رقم 6 قال:
{النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} استئناف بياني أن قوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} [الأحزاب: 4] وقوله: {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5] كان قد شمل في أول ما شمله إبطال بنوّة زيد بن حارثة للنبي صلى الله عليه وسلم فكان بحيث يثير سؤالاً في نفوس الناس عن مدى صلة المؤمنين بنبيهم صلى الله عليه وسلم وهل هي علاقة الأجانب من المؤمنين بعضهم ببعض سواء فلأجل تعليم المؤمنين حقوق النبي وحرمته جاءت هذه الآية مبينة أن النبي أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم. والمعنى: أنه أولى بكل مؤمن من أنفس المؤمنين. و{مِنْ} تفضيلية[40].
4. بيان المناسبة بين معاني الآية مع ذكر قرينتها، مثلا في تفسير آية رقم 6 قال:
{وأزواجه أمهاتهم} عَطَف على حقوق النبي صلى الله عليه وسلم حقوقَ أزواجه على المسلمين لمناسبة جريان ذكر حق النبي عليه الصلاة والسلام فجعَل الله لهن ما للأمهات من تحريم التزوج بهن بقرينة ما تقدم من قوله {وما جعَل أزواجَكُم اللاء تظّهرون منهنّ أمهاتكم} [الأحزاب: 4] [41].
5. بيان المناسبة بربط الكلام في الآيات مع شرح معانيها، مثلا في تفسير آية رقم 7 و8 قال:
وتربط هذا الكلام بالكلام الذي عطف هو عليه مناسبة قوله: {كان ذلك في الكتاب مسطوراً} [ الأحزاب: 6 ]. وبهذا الارتباط بين الكلامين لم يُحتج إلى بيان الميثاق الذي أخذه الله تعالى على النبيئين، فعُلم أن المعنى: وإذا أخذنا من النبيئين ميثاقهم بتقوى الله وبنبذ طاعة الكافرين والمنافقين وباتباع ما أوحى الله به. وقوله {إن الله كان عليماً حكيماً} [الأحزاب: 1] {ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً} فلما أمر النبي بالاقتصار على تقوى الله وبالإعراض عن دعوى الكافرين والمنافقين، أُعلم بأن ذلك شأن النبيئين من قبله، ولذلك عطف قوله ومنك} عقب ذكر النبيئين تنبيهاً على أن شأن الرسل واحد وأن سنة الله فيهم متحدة، فهذه الآية لها معنى التذييل لآية {يأيها النبي اتق الله ولا تُطع الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] الآيات الثلاث ولكنها جاءت معطوفة بالواو لبعد ما بينها وما بين الآيات الثلاث المتقدمة[42].
6. بيان المناسبة بين الآيات على موقع التعليل، مثلا في تفسير آية رقم 17 قال:
{قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رحمةً} يظهر أن هذه الجملة واقعة موقع التعليل لجملة {لن ينفعكم الفرار إن فررتم} الآية [الأحزاب: 16]، فكأنه قيل: فمن ذا الذي يعصمكم من الله، أي: فلا عاصم لكم من نفوذ مراده فيكم. وإعادة فعل {قل} تكرير لأجل الاهتمام بمضمون الجملة[43].
7. بيان المناسبة بين الآيات على الاستئناف المرتبط، مثلا في تفسير آية رقم 20 قال:
فتكون جملة {يحسبون} استئنافاً ابتدائياً مرتبطاً بقوله {اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً} [الأحزاب: 9] الخ... جاء عوْداً على بدْءٍ بمناسبة ذكر أحوال المنافقين، فإن قوله: {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} يؤذن بانهزام الأحزاب ورجوعهم على أعقابهم، أي: وقع ذلك ولم يشعر به المنافقون. ويجوز أن يكون المعنى: أنهم كانوا يسلقون المؤمنين اعتزازاً بالأحزاب لأن الأحزاب حلفاء لقريظة وكان المنافقون أخلاّء لليهود فكان سلقُهم المسلمين في وقت ذهاب الأحزاب وهم لا يعلمون ذلك ولو علموه لخفَّضوا من شدتهم على المسلمين، فتكون جملة {يحسبون} حالاً من ضمير الرفع في {سلقوكم} [الأحزاب: 19] أي: فعلوا ذلك حاسبين الأحزاب محيطين بالمدينة ومعتزين بهم فظهرت خيبتهم فيما قدروا[44].
8. بيان المناسبة بين الآيات باستخلاصها من كلام المفسرين المتقدمين، مثلا في تفسير آية رقم 28 و29 قال:
يستخلص مما ذكره ابن عطية رواية عن ابن الزبير ومما ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» وغير ذلك: أن وجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه لما فُتحت على المسلمين أرض قريظة وغنموا أموالهم وكانت أرض النضير قُبيل ذلك فَيْئاً للنبي صلى الله عليه وسلم حسب أزواج رسول الله أن مثَلَه مَثَل أحد من الرجال إذا وُسّع عليهم الرزق توسَّعوا فيه هم وعيالهم فلم يكن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يسألنَه توسعة قبل أن يفيء الله عليه من أهل النضير وقبل أن يكون له الخمس من الغنائم، فلما رأين النبي صلى الله عليه وسلم جعل لنفسه ولأزواجه أقواتهم من مال الله ورأين وفرة ما أفاءَ الله عليه من المال حسبْنَ أنه يوسِّع في الإنفاق فصار بعضهُنّ يستكثرنه من النفقة كما دل عليه قول عمر لحفصة ابنته أمّ المؤمنين: «لا تستكثري النبي ولا تُراجعيه في شيء وسَلِيني ما بَدا لكِ». ولكن الله أقام رسوله صلى الله عليه وسلم مقاماً عظيماً فلا يتعلق قلبه بمتاع الدنيا إلا بما يقتضيه قوام الحياة وقد كان يقول: "ما لي وللدنيا" وقال: "حُبِّبَ إليّ من دنياكم النساء والطيب". وقد بينتُ وجه استثناء هذين في رسالة كتبتُها في الحكمة الإلهية من رياضة الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه بتقليل الطعام[45].

9. بيان عدة وجوه الجمل الممكنة والجائزة لبيان المناسبة بين الآيات، مثلا في تفسير آية رقم 35 قال:
يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن قوله: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين} [الأحزاب: 31] بعدَ قوله: {لستن كأحد من النساء} [الأحزاب: 32] يثير في نفوس المسلمات أن يسألَنْ: أَهُنَّ مأجورات على ما يعملن من الحسنات، وأهنّ مأمورات بمثل ما أمرت به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أم تلك خصائص لنساء النبي عليه الصلاة والسلام، فكان في هذه الآية ما هو جواب لهذا السؤال على عادة القرآن فيما إذا ذكر مأمورات يُعقبها بالتذكير بحال أمثالها أو بحال أضدادها. ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً ورد بمناسبة ما ذكر من فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم[46].
10. بيان المناسبة بين الآيات على التعقيب، مثلا في تفسير آية رقم 36 قال:
والمناسبة تعقيب الثناء على أهل خصال هي من طاعة الله، بإيجاب طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلما أُعقب ذلك بما في الاتصاف بما هو من أمر الله مما يكسب موعوده من المغفرة والأجر، وسوّى في ذلك بين الرجال والنساء، أعقبه ببيان أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به ويعتزم الأمرَ هي طاعة واجبة وأنها ملحقة بطاعة الله وأن صنفي الناس الذكور والنساء في ذلك سواء كما كانا سواء في الأحكام الماضية[47].
11. بيان المناسبة بين الآيات على التكملة، مثلا في تفسير آية رقم 44 قال:
فالجملة تكملة للتي قبلها لإِفادة أن صلاة الله وملائكته واقعة في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة[48].
12. بيان المناسبة بين الآيات حسب النداءات، مثلا في تفسير آية رقم 45 و46 قال:
هذا النداء الثالث للنبيء صلى الله عليه وسلم فإن الله لما أبلغه بالنداء الأول ما هو متعلق بذاته، وبالنداء الثاني ما هو متعلق بأزواجه وما تخلل ذلك من التكليف والتذكير، ناداه بأوصاف أودعها سبحانه فيه للتنويه بشأنه، وزيادة رفعة مقداره وبين له أركان رسالته، فهذا الغرض هو وصف تعلقات رسالته بأحوال أمته وأحوال الأمم السالفة. وذُكر له هنا خمسةُ أوصاف هي: شاهد. ومبشّر. ونذير. وداع إلى الله. وسراج منير. فهذه الأوصاف ينطوي إليها وتنطوي على مجامع الرسالة المحمدية فلذلك اقتصر عليها من بين أوصافه الكثيرة[49].
13. بيان المناسبة حسب سبب النزول، مثلا في تفسير آية رقم 49 قال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) جاءت هذه الآية تشريعاً لحكم المطلقات قبل البناء بهن أن لا تلزمهن عِدَّة بمناسبة حدوث طلاق زيد بن حارثة زوجه زينب بنت جحش لتكون الآية مخصصة لآيات العدة من سورة البقرة، فإن الأحزاب نزلت بعد البقرة، وليخصص بها أيضاً آية العِدّة في سورة الطلاق النازلة بعدها لئلاَّ يظنّ ظانّ أن العدة من آثار العقد على المرأة سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل. قال ابن العربي: وأجمع علماء الأمة على أن لا عدّة على المرأة إذا لم يدخل بها زوجها لهذه الآية[50].
 14. بيان المناسبة بين الآيات حسب مراد الله فاستخدم كلمة "لعل" على وجه الاحتمال، مثلا في تفسير آية رقم 50 قال:
ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنتتِ جحش وقالوا: تزوج من كانت حليلة متبنّاه، أراد الله أن يجمع في هذه الآية مَن يحل للنبيء تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون. ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء} الآية، ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعاً لتكون جامعة للأحوال، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال[51].
15. بيان المناسبة بين الآيات على الآداب مع الإشارة إلى سبب النزول، مثلا في تفسير آية رقم 53 قال:
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا وَلاَ مُسْتَئنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكَ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحِى مِنكُمْ واللهُ لاَ يَسْتَحِى مِنَ الحَقِّ}. لما بين الله في الآيات السابقة آداب النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه قفّاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن، وصدره بالإِشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية. وهي ما في «صحيح البخاري» وغيره عن أنس بن مالك قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنة جحش صنع طعاماً بخبز ولحم ودعا القوم فطعِموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيّأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام فلما قام قام مَن قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع فانطلق إلى حجرة عائشة... فتقَرَّى حُجَرَ نسائه كلهن يسلّم عليهن ويسلمن عليه ويدعون له، ثم إنهم قاموا فانطلقتُ فجئت فأخبرتُ النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبتُ أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلو بيوت النبي} إلى قوله: {من وراء حجاب}[52].
16. بيان المناسبة بين الآيات على الثناء والتشريف، مثلا في تفسير آية رقم 56 قال:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) أعقبت أحكام معاملة أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بالثناء عليه وتشريف مقامه إيماء إلى أن تلك الأحكام جارية على مناسبة عظمة مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند الله تعالى، وإلى أن لأزواجه من ذلك التشريف حظًّا عظيماً. ولذلك كانت صيغة الصلاة عليه التي علَّمها للمسلمين مشتملة على ذكر أزواجه كما سيأتي قريباً، وليُجعل ذلك تمهيداً لأمر المؤمنين بتكرير ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء والدعاء والتعظيم، وذُكرَ صلاة الملائكة مع صلاة الله ليكون مثالاً من صلاة أشرف المخلوقات على الرسول لتقريب درجة صلاة المؤمنين التي يؤمرون بها عقب ذلك، والتأكيد للاهتمام. ومجيء الجملة الإسمية لتقوية الخبر، وافتتاحها باسم الجلالة لإِدخال المهابة والتعظيم في هذا الحكم، والصلاة من الله والملائكة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} في هذه السورة (43)[53].
17. بيان المناسبة بين الآيات الأخيرة في السورة بالآيات قبلها لإبراز ارتباط جميع مضمون الآيات، مثلا في تفسير آية رقم 72 قال:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) استئناف ابتدائي أفاد الإنباء على سنة عظيمة من سنن الله تعالى في تكوين العالم وما فيه وبخاصة الإِنسان ليرقب الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع ربهم ومعاملاتهم بعضهم مع بعض بمقدار جريهم على هذه السنة ورعيهم تطبيقها فيكون عرضهم أعمالهم على معيارها مشعراً لهم بمصيرهم ومبيناً سبب تفضيل بعضهم على بعض واصطفاء بعضهم من بين بعض. وموقع هذه الآية عقب ما قبلها، وفي آخر هذه السورة يقتضي أن لمضمونها ارتباطاً بمضمون ما قبلها، ويصلح عوناً لاكتشاف دقيق معناها وإزالة ستور الرمز عن المراد منها، ولو بتقليل الاحتمال، والمصير إلى المآل. والافتتاح بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو تنزيله لغرابة شأنه منزلة ما قد ينكره السامع[54].






المطلب الثاني: منهج الإمام ابن عاشور في بيان أغراض السورة
وقد اهتم الإمام ابن عاشور في بيان أغراض السورة، وهناك أمثلة كثيرة في هذه السورة التي تدل على هذا الاهتمام ومنها:
1. بدأ تفسير هذه السورة ببيان أغراض السورة فقال:
لكثير من آيات هذه السورة أسباب لنزولها، وأكثرها نزل للرد على المنافقين أقوالا قصدوا بها أذى النبي r. وأهم أغراضها: الرد عليهم قولهم لما تزوج النبي r زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة فقالوا:تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله تعالى إبطال التبني. وأن الحق في أحكام الله لأنه الخبير بالأعمال وهو الذي يقول الحق. وأن ولاية النبي r للمؤمنين أقوى ولاية، ولأزواجه حرمة الأمهات لهم، وتلك ولاية  من جعل الله فهي أقوى وأشد من ولاية الأرحام. وتحريض المؤمنين على التمسك بما شرع الله لهم لأنه أخذ العهد بذلك على جميع النبيين. والاعتبار بما أظهره الله من عنايته بنصر المؤمنين على أحزاب أعدائهم من الكفرة والمنافقين في وقعة الأحزاب ودفع كيد المنافقين. والثناء على صدق المؤمنين وثباتهم في الدفاع عن الدين. ونعمة الله عليهم بأن أعطاهم بلاد أهل الكتاب الذين ظاهروا الأحزاب. وانتقل من ذلك إلى أحكام في معاشرة أزواج النبي r وذكر فضلهن وفضل آل النبيr وفضائل أهل الخير من المسلمين والمسلمات. وتشريع في عدة المطلقة قبل البناء. وما يسوغ لرسول الله r من الأزواج. وحكم حجاب أمهات المؤمنين ولبسة المؤمنات إذا خرجن. وتهديد المنافقين على الإرجاف بالأخبار الكاذبة. وختمت السورة بالتنويه بالشرائع الإلهية فكان ختامها من رد العجز على الصدر...وتخلل ذلك مستطردات من الأمر بالائتسساء بالنبيr. وتحريض المؤمنين على ذكر الله وتنزيهه شكرا له على هديه. وتعظيم قدر النبي r عند الله وفي الملأ الأعلى، والأمر بالصلاة عليه والسلام. ووعيد المنافقين الذين يأتون بما أوذي الله ورسوله والمؤمنين. والتحذير من التورط في ذلك كيلا يقعوا فيما وقع فيه الذين آذوا موسى عليه السلام[55].
        حسب ما تأملنا من الأغراض التي ذكرها الإمام ابن عاشور فهي عبارة عن تلخيص جميع الآيات في سورة الأحزاب.
2. وبعد ذلك، بين الإمام ابن عاشور أغراض مختلفة في خمس نداءات للنبي r:
افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وندائه بوصفه مُؤذِنٌ بأن الأهم من سوق هذه السورة يتعلق بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وقد نودي فيها خمس مرات في افتتاح أغراض مختلفة من التشريع بعضها خاص به وبعضها يتعلق بغيره وله ملابسة له. فالنداء الأول: لافتتاح غرض تحديد واجبات رسالته نحو ربه. والنداء الثاني: لافتتاح غرض التنويه بمقام أزواجه واقترابه من مقامه. والنداء الثالث: لافتتاح بيان تحديد تقلبات شؤون رسالته في معاملة الأمة. والنداء الرابع: في طالعَة غرض أحكام تزوجه وسيرته مع نسائه. والنداء الخامس: في غرض تبليغه آداب النساء من أهل بيته ومن المؤمنات. فهذا النداء الأول افتتح به الغرض الأصلي لبقية الأغراض وهو تحديد واجبات رسالته في تأدية مراد ربه تعالى على أكمل وجه دون أن يفسد عليه أعداء الدين أعماله، وهو نظير النداء الذي في قوله {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] الآية، وقوله: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} [المائدة: 41] الآيات[56].
3. وبين كذلك من أغراض السورة عند تفسيره لبعض الآيات، مثلا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) ابتداء لغرض عظيم من أغراض نزول هذه السورة والذي حفّ بآيات وعِبَر من ابتدائه ومن عواقبه تعليماً للمؤمنين وتذكيراً ليزيدهم يقيناً وتبصيراً. فافتتح الكلام بتوجيه الخطاب إليهم لأنهم أهله وأحقّاءُ به، ولأن فيه تخليد كرامتهم ويقينهم وعناية الله بهم ولطفَه لهم وتحقيراً لعدوّهم ومن يكيد لهم، وأمروا أن يذكروا هذه النعمة ولا ينسوها لأن في ذكرها تجديداً للاعتزاز بدينهم والثقة بربهم والتصديق لنبيهم صلى الله عليه وسلم[57].
الخاتمة

        وفي ختام هذا البحث، يجدر بي أن أقدم النتائج والملخص لهذا البحث:

أ‌.       إن في كل كتاب من كتب التفاسير، هناك منهج خاص الذي يسير عليه المفسر لتفسير كتاب الله تعالى؛ فتفسير سليم يبدأ بمنهج سليم.
ب‌.  فللإمام ابن عاشور منهجه الخاص في تفسيره حيث اهتم ببيان معاني المفردات، وفن دقائق البلاغة، والمناسبة بين الآيات، وأغراض السورة، ووجوه الإعجاز.
ت‌.  فالإمام ابن عاشور في بيانه لمعاني المفردات، بدأ باختيار كلمات مهمة، ثم جاء بمشتقاتها، ثم بين معانيها اللغوية، وبعد ذلك شرح معناه حسب سياق الآية بالاستدلال من الآيات الأخرى والأحاديث النبوية، والأبيات الشعرية.
ث‌.   والإمام ابن عاشور في بيانه لدقائق الفن البلاغي، ذكر أنواع البلاغة من التمثيل والاستعارة والكناية والتشبيه والمقابلة والالتفات ونحوها.
ج‌.   والإمام ابن عاشور في بيانه للمناسبة بين الآيات، ذكرها حسب علاقة الآية بالآيات قبلها، وحسب الاستئناف البياني، وحسب استخلاصه من كلام المفسرين القدامى، وحسب احتماله لمراد الله تعالى في الآيات، ونحوها.
ح‌.   والإمام ابن عاشور في بيانه لأغراض السورة، ذكر خلاصة من الآيات الموجودة في السورة الواحدة، وأبرز النقاط الأساسية للسورة.
خ‌.  فتفسير الإمام ابن عاشور من التفاسير في العصر الحديث الذي لا يستغني عنه طلبة الدراسات القرآنية.

وتم البحث إلى هنا، وأن الحمد لله رب العالمين.


قائمة المصادر والمراجع

القرآن الكريم
ابن عاشور، محمد بن الطاهر. (1420هـ/2000م). التحرير والتنوير (ط1). بيروت:مؤسسة التاريخ.
الخالدي، صلاح عبد الفتاح. (1427هـ/2006م). تعريف الدارسين بمناهج المفسرين (ط2). دمشق: دار القلم.
الزركلي، خير الدين. (١٩۹۹م). الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين (د.ط.). بيروت: دار العلم الملايين.



[1]الخالدي، صلاح عبد الفتاح، تعريف الدارسين بمناهج المفسرين، (دمشق: دار القلم، ط2، 1427هـ/2006م)، ص587.
[2]الإمام ابن عاشور، http://www.zytouna.com/?p=238. موجود في موقع الإنترنيت بتاريخ 13 مارس 2011.
[3]الزركلي، خير الدين، الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، (بيروت: دار العلم الملايين، د.ط، ١٩۹۹م)، ج6، ص174.
[4]انظر: ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، (بيروت: مؤسسة التاريخ، ط1، 1420هـ/2000م)، ج30، ص558؛ والخالدي، تعريف الدارسين بمناهج المفسرين، ص588.
[5]الخالدي، تعريف الدارسين بمناهج المفسرين، ص588.
[6]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج1، ص5.
[7]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج1، ص7.
[8]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج1، ص9-10.
[9]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج30، ص410.
[10]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص179.
[11]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص180.
[12]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص182.
[13]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص186.
[14]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص200.
[15]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص210.
[16]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص217.
[17]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص225.
[18]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص244-245.
[19]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص278.
[20]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص279-280.
[21]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص184.
[22]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص198.
[23]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص206-207.
[24]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص262.
[25]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص345-346.
[26]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص201.
[27]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص201.
[28]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص205.
[29]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص212.
[30]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص222.
[31]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص249.
[32]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص204-205.
[33]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص345.
[34]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص218-220.
[35]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص285.
[36]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص281-282.
[37]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص284-285.
[38]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص186.
[39]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص187.
[40]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص193.
[41]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص194.
[42]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص198-199.
[43]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص214.
[44]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص221-222.
[45]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص232-233.
[46]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص250-251.
[47]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص257.
[48]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص278.
[49]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص279.
[50]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص286.
[51]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص289.
[52]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص305-306.
[53]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص320.
[54]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص344.
[55]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص177.
[56]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص178.
[57]ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج21، ص201.

No comments:

Post a Comment