Thursday, April 19, 2012

الأحرف السبعة


المبحث الثاني: الأحرف السبعة
المطلب الأول: تعريف الأحرف السبعة
لغة: الحرف في أصل كلام العرب معناه الطرف والجانب، وبه سمي الحرف من حروف الهجاء. وحرف كل شيء طرفه وشفيره وحدّه، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد. وحرف الشيء: ناحيته. وفلان على حرف من أمره أي ناحية منه كأنه ينتظر ويتوقع، فإن رأى من ناحية ما يحب وإلا مال إلى غيرها[1].
اصطلاحاً: قد اختلف العلماء في حقيقة الأحرف السبعة. وذكر الإمام السيوطي نحو أربعين قولاً في معنى الأحرف السبعة[2]، أكثرها متداخلة فيما بينها، وأشهرها:
الرأي الأول: ذهب كثير من العلماء إلى أن المراد بها: سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد، على معنى أنه حيث تختلف لغات العرب في التعبير عن معنى من المعاني يأتي القرآن منـزلا بألفاظ على قدر هذه اللغات لهذا المعنى الواحد، وحيث لا يكون هناك اختلاف فإنه يأتي بلفظ واحد أو أكثر، فهي أوجه سبعة من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة. وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، وابن جرير الطبري، والطحاوي، ونسب ابن عبد البر هذا الرأي لأكثر العلماء[3].
مثل: (هَلُمَّ، أَقْبِلْ، تَعَالَ، عَجِّل، أَسْرِع، قَصْدِي، نَحْوِي)؛ فهذه ألفاظ سبعة مختلفة، معناها واحد وهو طلب الإقبال، والمقصود أن منتهى ما وصل إليه عدد الألفاظ المعبِّرة عن معنى واحد هو سبعة، وليس المقصود أن كل معنى في القرآن عبِّر عنه بسبعة ألفاظ من سبع لغات. وأصحاب هذا الرأي أيَّدوا كلامهم بأن التيسير المنصوص عليه في الأحاديث متوفر في هذا الرأي، ثم هم يرون أن الباقي من هذه اللغات الست أو الأحرف الستة هو حرف قريش دون غيرهم. واعتُرِضَ على هذا الرأي بأنه يترتب عليه أن عثمان t كان قد نسخ الأحرف الستة التي توفي رسول الله r وهي كانت مما يقرأ بها. وأجيب عن ذلك بأن ذلك لا يُعَدُّ نسخاً، ولا رفعاً، ولا إهمالاً من الأمة للأحرف الستة الأخرى؛ لأن الأمة قد أمرت بقراءة القرآن، وخُيِّرت في قراءته بأي من الأحرف السبعة، ولم يجب عليها قراءته بجميعها، فاختيار حرف منها لا يُعَدُّ جرماً، ولا نسخاً للأحرف الباقية، خاصة أن الحاجة قد دعت إلى ذلك بعد وقوع الاختلاف والتنازع بين الصحابة في فتح أرمينية وأذربيجان، الأمر الذي اضْطُرَّ عثمانُ بسببه إلى جمع المصحف وكتابته بحرف قريش؛ لأن لغة قريش كانت تُعتبَر مركزاً لسائر اللغات العربية، بسبب موقع البيت الحرام ببلدهم مكة المكرمة، وانتقال سائر القبائل إليهم لحج البيت. لقد بيَّن الإمام ابن جرير الطبري أن اختلاف القراء إنما هو كله حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وهو الحرف الذي كتب عثمان عليه المصحف[4].
الرأي الثاني: إن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات قبائل من العرب نزل عليها القرآن، على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عن سبع لغات هي أفصح لغاتهم، فأكثره بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن، وهكذا إلى سبع. وهذا الرأي يختلف عن سابقه لأنه يعني أن الأحرف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في سور القرآن، لا أنها لغات مختلفة في كلمة واحدة مع اتفاق المعاني. وإلى هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي، وثعلب، وابن عطية، والزهري[5].
ومن أمثلة ذلك: ذكر القرآن لغتين (لغة قريش ولغة هوازن) معاً في كلمة (تَسْتَطِع) و(تَسْطِع). وذلك في قوله تعالى حكايةً عن موسى u مع العبد الصالح: ]سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً[ [الكهف: 78]، ثم قال في آخر القصة: ]ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً[ [الكهف: 82]. واستدلوا بأدلة، منها: عدم معرفة بعض الصحابة القرشيين لبعض ألفاظ القرآن إلاّ من بعض العرب، كما وقع لابن عباس في كلمة ]فاطر[ حيث روي عنه أنه قال: لم أكن أدري ما ]فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ[ حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: "أنا فطرتها" أي ابتدأتها. واعترض على هذا الرأي بأن عدم معرفة ابن عباس لمعنى هذه الكلمة لا يدل على أن اللفظة غير قرشية لجواز أن يكون قد غاب معناها عن ابن عباس، وليس بلازم أن يحيط المرء بكل معاني لغته أو بألفاظها، بل قيل: اللغة لا يحيط بها إلا معصوم[6].
الرأي الثالث: الأحرف السبعة هي وجوه التغاير السبعة. ذهب جمع غفير من العلماء، من أبرزهم أبو الفضل الرازي، وابن قتيبة، وأبو بكر الباقلاني، وابن الجزري، إلى أن الأحرف السبعة هي وجوه التغاير السبعة، التي لا يخرج عنها الاختلاف في القراءات، وهي ما يلي: أولاً: اختلاف الأسماء من حيث الإفراد والتثنية والجمع، والتذكير والتأنيث. ثانياً: اختلاف الأفعال في التصريف من ماض، ومضارع، وأمر. ثالثاً: اختلاف وجوه الإعراب. رابعاً: الاختلاف بالنقص والزيادة. خامساً: الاختلاف بالتقديم والتأخير. سادساً: الاختلاف بالإبدال. سابعاً: اختلاف اللهجات كالفتح والإمالة والتفخيم والترقيق والإظهار والإدغام[7].
وقال الإمام أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي (ت454) في اللوامح: «… إنّ كل حرف من الأحرف السبعة المنَزَّلة جنس ذو نوع من الاختلاف: (1) اختلاف أوزان الأسماء من الواحدة، والتثنية، والجموع، والتذكير، والمبالغة، مثل: ]وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ[ [المؤمنون:8]، وقرئ: ]لأَمَانَتِهِمْ[ بالإفراد. (2) اختلاف تصريف الأفعال وما يسند إليه نحو الماضي والمستقبل والأمر، وأن يسند إلى المذكر والمؤنث، والمتكلم والمخاطب، والفاعل والمفعول به. ومن أمثلته: ]فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا[ [سبأ:19] بصيغة الدعاء، وقرئ: ]رَبَّنَا بَاعَدَ[ فعلا ماضيا. (3) وجوه الإعراب. ومن أمثلته: ]وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ[ [البقرة:282] قرئ بفتح الراء وضمها، وقوله: ]ذُو الْعَرْشِ المجِيْدُ[ [البروج:15] برفع ]المجِيْدُ[ وجرّه. (4) الزيادة والنقص، مثل: ]وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى[ [الليل:3] قرئ: ]الذَّكَرَ وَالأُنْثَى[. (5) التقديم والتأخير، مثل: ]فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ[ [التوبة:111] وقرئ: ]فَيُقْتَلونَ ويَقْتُلُون[ ومثل: ]وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ[، قرئ: ]وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ[. (6) القلب والإبدال في كلمة بأخرى، أو حرف بآخر، مثل: ]وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا[ [البقرة:259] بالزاي، وقرئ: ]نَنشُرُهَا[ بالراء. (7) اختلاف اللغات: مثل ]هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى[ [النازعات:15] بالفتح والإمالة في: ]أتى[ و]موسى[ وغير ذلك من ترقيق وتفخيم وإدغام… وقد لقي هذا الرأي شهرةً ورواجًا عند كثير من العلماء، منهم الشيخ عبد العظيم الزرقاني في كتابه "مناهل العرفان"، ورجَّحه على غيره، وساق الأمثلة لكل وجه منها، وقرَّر أنه الرأي الذي تؤيده الأحاديث الواردة في هذا المقام. واعترض على هذا الرأي بأن الرخصة في التيسير على الأمة بناءً على هذا الرأي غير واضحة ولا ظاهرة، فأين الرخصة في قراءة الفعل المبني للمعلوم مبنياً للمجهول أو العكس؟ وأين الرخصة في إبدال حركة بأخرى، أو حرف بآخر، أو في تقديم وتأخير؟ فإن القراءة على وجه من هذه الوجوه[8].
الترجيح:
ومن العلماء من رجّح الرأي الذي قال بأن الأحرف السبعة هي سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد، على معنى أنه حيث تختلف لغات العرب في التعبير عن معنى من المعاني يأتي القرآن منـزلا بألفاظ على قدر هذه اللغات لهذا المعنى الواحد، وحيث لا يكون هناك اختلاف فإنه يأتي بلفظ واحد أو أكثر، فهي أوجه سبعة من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة. وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، وابن جرير الطبري، والطحاوي، ونسب ابن عبد البر هذا الرأي لأكثر العلماء. فيترتب على الأخذ بهذا الرأي أن يكون الثابت الآن في المصحف هو حرف قريش دون غيره، من حيث أن عثمان بن عفان t حين وضع المصحف الإمام قد أحرق الأحرف الستة الباقية، وإنما أراد بذلك توحيد الأمة بعد أن اختلف المسلمون في الأمصار، وتعددت قراءاتهم[9].
ومنهم من رجح الرأي الذي قال بأن الأحرف السبعة هي وجوه التغاير السبعة. ذهب جمع غفير من العلماء، من أبرزهم أبو الفضل الرازي، وابن قتيبة، وأبو بكر الباقلاني، وابن الجزري، إلى أن الأحرف السبعة هي وجوه التغاير السبعة، التي لا يخرج عنها الاختلاف في القراءات، وهي ما يلي: أولاً: اختلاف الأسماء من حيث الإفراد والتثنية والجمع، والتذكير والتأنيث. ثانياً: اختلاف الأفعال في التصريف من ماض، ومضارع، وأمر. ثالثاً: اختلاف وجوه الإعراب. رابعاً: الاختلاف بالنقص والزيادة. خامساً: الاختلاف بالتقديم والتأخير. سادساً: الاختلاف بالإبدال. سابعاً: اختلاف اللهجات كالفتح والإمالة والتفخيم والترقيق والإظهار والإدغام.؛ فيترتب على الأخذ بهذا الرأي أن عثمان بن عفان t حين وضع المصحف الإمام لم يحرق الأحرف الستة الباقية، فيكون الثابت في المصحف العثماني وهو ما احتمله هذا الرسم من الأحرف السبعة[10].

المطلب الثاني: الأحاديث في الأحرف السبعة:
من الأحاديث في الأحرف السبعة كما يلي:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله r قال: «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ، فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي، حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ»[11].
2- عن عمر بن الخطاب t قال: "سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ r، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ r ... فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ!». فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ»، ثُمَّ قَالَ: «اقْرَأْ يَا عُمَرُ!»، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ»[12].  
3- عن أُبَيِّ بن كَعْبٍ قال: "كنت في الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عليه، ثُمَّ دخل آخَرُ، فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فلما قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جميعا على رسول اللَّهِ r، فقلت: إِنَّ هذا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عليه، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا رسول اللَّهِ r فقرأ، فَحَسَّنَ النبي r شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ في نَفْسِي من التَّكْذِيبِ، ولا إِذْ كنت في الْجَاهِلِيَّةِ[13]، فلما رَأَى رسول اللَّهِ r ما قد غَشِيَنِي ضَرَبَ في صَدْرِي، فَفِضْتُ عَرَقًا، وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إلى اللَّهِ عز وجل فَرَقًا، فقال لي: «يا أُبَيُّ! أُرْسِلَ إليَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ على حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إليه أَنْ هَوِّنْ على أُمَّتِي، فَرَدَّ إليَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ على حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إليه أَنْ هَوِّنْ على أُمَّتِي، فَرَدَّ إليَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فقلت: اللهم اغْفِرْ لأُمَّتِي، اللهم اغْفِرْ لأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إليَّ الْخَلْقُ كلهم حتى إِبْرَاهِيمُ r»[14].
نستخلص من هذه الروايات ما يلي من الحقائق:
        1- تدل الأحاديث السابقة على أن الأحرف السبعة ليست إلاّ خلافاً في الألفاظ وهيئات النطق في كلمات القرآن، بدليل أنّ الخلاف الذي وقع بين الصحابة إنّما كان حول كيفية تلاوة ألفاظ القرآن[15].
        2- نهى النبي r عن الجدال والخصام والتنازع بشأن الأحرف السبعة؛ لأن كل حرف منها مُنَزَّلٌ من عند الله تعالى، فله حرمة القرآن الكريم، وإنكار أي شيء منها هو إنكارٌ وجحودٌ لما أوحاه الله إلى نبيه[16]؛ فإن الحكمة من نزول القرآن  على سبعة أحرف هي التيسير على الأمة ورفع المشقة والحرج عنها، فما ينبغي أن نبدل نعمة الله كفراً، وأن  نجعل من اليسر عسراً.
        3- الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن توقيفي؛ فإنّ مرجع هذه الأحرف إلى الله، وأنها مأخوذة بالتلقي عن رسول الله r، ولا سبيل لبشر أن يزيد أو أن ينقص منها، ولا مجال فيه للرأي والاجتهاد.
4- لا نزاع بين المسلمين أنّ الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناها متفقاً أو متقارباً، كما تصدِّق الآيات بعضها بعضا، إنما هو كقول أحدكم: "أَقْبِلْ" و"هَلُمَّ" و"تَعَالَ".
5- إن الأمة كانت مُخَيَّرةً في القراءة بأي حرفٍ منها، من غير إلزام بواحد منها، وأن من قرأ بأي حرف منها فقد أصاب، بدليل قوله r في حديث عمر، وقول جبريل u في حديث المراجعة[17].
المطلب الثالث: حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف
        وقد أراد الله تعالى بإنزال القرآن على الأحرف السبعة توسعةً على عباده، ورحمةً لهم، وتخفيفاً عنهم، عند سؤال النبي r إياه لهم، ومراجعته له فيه، لعلمه r بما هم عليه من اختلاف اللغات، واستصعاب مفارقة كل فريق منهم الطبع والعادة في الكلام إلى غيره، فخفف تعالى عنهم، وسهَّل عليهم بأن أقرَّهم على مألوف طبعهم وعادتهم في كلامهم. والدليل على ذلك الخبر الذي رواه عبد الرجمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب عن النبي r أن الله تعالى أمره أن يقرأ القرآن على حرف، فقال: «رب خفف عن أمتي» فأمره أن يقرأ القرآن على سبعة أحرف[18].
        وأضاف الزرقاني أن القرآن نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وأن الكتاب قبله كان ينْزل من باب واحد على حرف واحد، وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين، والنبي r بعث إلى جميع الخلق، أحمرهم وأسودهم، عربيهم وعجميهم، وكان العرب الذي نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة، وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغة إلى غيرها، أو من حرف إلى آخر، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج، لا سيما الشيخ والمرأة ومن لم يقرأ كتاباً، كما أشار إليه، فلو كُلِّفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع، وما عسى أن يتكلف المتكلف، وتأبى الطباع[19]. 
        واستخلص الشيخ مناع القطان حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف في خمسة أمور؛ وبالاختصار ما يلي[20]:
أولاً، تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين، لكل قبيل منهم لسان، ولا عهد لهم بحفظ الشرائع، فضلاً أن يكون ذلك مما ألفوه.
ثانياً، تيسير قراءة القرآن على المسلمين جميعاً في كل عصر. فالإسلام هو دين الله للبشرية كافة، ولم تكن رسالة نبينا محمد r لجنس دون جنس، ولا لوطن دون وطن، بل كانت رسالته للإنسانية كلها على اختلاف الجنس والوطن واللغة.
ثالثاً: تمييز القرآن الكريم عن غيره من الكتب السابقة. فللقرآن خصائص كثيرة، منها أنه انماز بخصيصة نزوله بسبعة ألسن من لغات العرب، كل منها هو وحي الله المنزل، وليس تفسيراً ولا تأويلاً. أما الكتب السماوية السابقة فنزل كل كتاب منها بلسان واحد، وإذا عدل عنه فإنه يكون من باب الترجمة والتفسير، وليس بالذي أنزل الله تعالى.
رابعاً، إعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب. فتعدد مناحي التأليف الصوتي للقرآن تعدداً يكافئ الفروع اللسانية التي عليها فطرة اللغة في العرب، حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه مع بقاء الإعجاز الذي تحدى به الرسول r العرب، ومع اليأس من معارضته، لا يكون إعجازاً للسان دون آخر، وإنما يكون إعجازاً للفطرة اللغوية نفسها عند العرب، وإعجاز الفطرة اللغوية إعجاز لا يحده زمن، بل يمتد دائما مع اللغة ما دامت هذه اللغة قائمة.
خامساً، إعجاز القرآن في معانيه وأحكامه. فإن تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات يعطي مزيداً من المعاني التي يدل عليها اللفظ، ويتهيأ معه استنباط الأحكام التي تجعل القرآن ملائماً لكل عصر، يلبي حاجات البشرية ويقيم حياتها على نهج الله الأقوم.



[1]جمال الدين حمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، اعتناء: أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط3، د.ت.) ج3، ص128.
[2]عبد الرحمن بن أبو بكر السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، تعليق: مصطفى ديب البغا، (بيروت: المكتبة الإسلامية، ط3، 1404هـ)، ج1، ص130.
[3]مناع القطان، نزول القرآن على سبعة أحرف، (القاهرة: مكتبة وهبة، ط1، 1411هـ/1991م) ص35-36.
[4]صفية شمس الدين، المدخل إلى دراسة علوم القرآن، ص87.  
[5]القطان، نزول القرآن على سبعة أحرف، ص37-38.
[6]عبد الله محمود شحاته، علوم القرآن، (القاهرة: دار غريب، د.ط.، 2002م) ص244-245؛ وصفية شمس الدين، المدخل إلى دراسة علوم القرآن، ص88-89.  
[7]مصطفى ديب البغا ومحي الدين ديب متو، الواضح في علوم القرآن، (دمشق: دار الكلم الطيب، ط2، 1418هـ/1998م)، ص112-113؛ وصفية شمس الدين، المدخل إلى دراسة علوم القرآن، ص90-91.  
[8]صفية شمس الدين، المدخل إلى دراسة علوم القرآن، ص90-91.  
[9]القطان، نزول القرآن على سبعة أحرف، ص35-36؛ وصفية شمس الدين، المدخل إلى دراسة علوم القرآن، ص91.  
[10]صفية شمس الدين، المدخل إلى دراسة علوم القرآن، ص92.  
[11] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم 4991. انظر: محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، (بيروت: دار ابن كثير، ط1، 1423هـ-2002م)، ص1276.
[12] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم 4992.
[13] أي وسوس لي الشيطان تكذيباً للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية.
[14] أخرجه مسلم في صحيحه، رقم820.
[15] فضل حسن عباس، إتقان البرهان في علوم القرآن، ج2، ص70.
[16] فضل حسن عباس، إتقان البرهان في علوم القرآن، ج2، ص71.
[17]صفية شمس الدين، المدخل إلى دراسة علوم القرآن، ص85.  
[18]أبو عمرو الداني، الأحرف السبعة للقرآن، تحقيق: عبد المهيمن طحان، (مكة المكرمة: مكتبة المنارة، ط1، 1408هـ/1988م) ص31.
[19]الزرقاني،  مناهل العرفان، ج۱، ص153.
[20]القطان، نزول القرآن على سبعة أحرف، ص101-107.

No comments:

Post a Comment